((ذلك: ومن يعظم شعائر الله، فإنها من تقوى القلوب)).
[(سورة الحج: الآية 32).
كل من ينطلق في الحياة، ينتزع من إحدى قاعدتين:
1- قاعدة (رغبة)، تختلف أسبابها وتختلف آمادها باختلاف الأفراد والظروف، ولكنها لا تختلف في كونها محدودة ومؤقتة، فالرغبة شهوة لها نوبة، ونزوة لها دورة، فتلتهب بسرعة وتخبو بسرعة، لأن الرغبة هي ما لم يؤسس عليها الفرد حياته، فيسهل عليه التخلي عنها.
2- قاعدة (مبدأ)، تختلف أسبابه وتختلف آماده باختلاف الأفراد، ولكنه لا يختلف في كونه مطلقاً ودائماً. لأن المبدأ هو ما أسس عليه الفرد حياته، وبتصدعه تنهار حياته. فلا يتخلى عنه إلا بانتهاء حياته.
والهاوي ينتزع من قاعدة الرغبة، سواء أ كانت هوايته منبعثة من داخله، كهواية: جمع الطوابع، أو الصور، أو الرياضة، أو غيرها من الهوايات المعبرة عن الذوق. أو كانت هوايته منبعثة من خارجه، كالهوايات التي لا تعبر عن الذوق، وإنما تعبر عن استجابة رغبة الآخرين، من صديق أو قريب أو عرف...
والمحترف ينتزع من قاعدة المبدأ، سواء أ كان مبدؤه تعبيراً عن إيمانه الداخلي أو كان مبدؤه تعبيراً عن مصلحته.
لأن الهاوي لا يؤسس حياته على هوايته، والمحترف يؤسس حياته على مبدئه. ولا فرق بين الهواية والمبدأ ذاتاً، وإنما الفارق في موقف الفرد منهما: فكل هواية يمكن أن يؤسس عليها الفرد حياته، فتكون مبدأه. وكل مبدأ يمكن أن يصطفيه الفرد لرغبته، فيكون هوايته.
ومن طبيعة الهاوي أنه يمارس هوايته في فضوله، فلا يقود إليها الآخرين، ولا يلتزم بها إن كلفته كثيراً.
ومن طبيعة المحترف أنه يمارس مبدأه في جده، فيقود إليه الآخرين، ويلتزم به وإن كلفه كثيراً.
والمسلمون ينقسمون إلى قسمين:
1- المستسلمون، الذين أسلموا انتزاعاً من قاعدة رغبة: قد يكون سببها الخوف من نتائج الكفر، وقد يكون سببها المصلحة في اعتناق الإسلام، وقد يكون سببها الانسياق مع التيار. فاشتهوا الإسلام، دون أن يؤسسوا عليه حياتهم. ومنهم الذين عناهم القرآن بقوله: ((قالت الأعراب: آمنا، قل: لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم...))(2). وهم أشبه بالهواة. وهؤلاء... مسلمون في حدود، وما دام سببه موجوداً.
2- المؤمنون، الذين أسلموا انتزاعاً من قاعدة مبدأ: قد يكون سببه الاقتناع به، وقد يكون سببه المصلحة الدنيوية أو الأخروية. ولكنهم أسسوا عليه حياتهم، فربطوا بين مصيره ومصيرهم، وهؤلاء... مسلمون مطلقاً ودائماً.
وهذا القسم الثاني من المسلمين وإن كان اعتناقهم له بدون اقتناع، إلا أن ممارسته المستمرة تنتهي بتسربه إلى قلوبهم، لأنه حق.
وهؤلاء... يمرون بثلاث مراحل:
1- قبل أن يتسرب الإسلام إلى قلوبهم.
2- عندما يتسرب الإسلام إلى قلوبهم، فيتحول الإسلام إيماناً.
3- عندما يتمكن الإيمان من قلوبهم، فيتحول الإيمان تقوى.
وهم – ما داموا في المرحلة الأولى – يلتزمون بالإسلام طالما هم مع المسلمين (ويتخلون عنه مع أنفسهم ومع غير المسلمين) فيكتفون بالاشتراك في المظاهر الإسلامية، حتى يكون لهم ما للمسلمين.
وإذا انتقلوا إلى المرحلة الثانية، التزموا بالإسلام مع المسلمين ومع أنفسهم.
فإذا وصلوا إلى المرحلة الثالثة، رفعوا الشعارات الإسلامية لدعوة غيرهم إلى الإسلام.
((ومن يعظم شعائر الله)) ويرفع شعارات الإسلام، ((فإنها)) ظاهرة تدل على أنه بلغ المرحلة الثالثة في الإسلام، فشعائر الله ((من تقوى القلوب)). فليس هو متقياً فحسب، وإنما قلبه أصبح متقياً، فهو – في تقواه – يعبر عن واقعه بلا تكلف.
فالإناء ما لم يمتلئ لا يطفح، وإذا طفح فقد امتلأ بوفر. وما لم يتمكن الإيمان من قلب المؤمن، لا يتصدى لغيره.
وهذا التشجيع الأكيد من القرآن على تعظيم شعائر الله، لا بد منه، لأن رفع الشعارات الإسلامية تفيد لأمور:
1- إيجاد الكيان الإسلامي في واقع المجتمع، والدلالة على أن المسلمين بلغوا درجة الإعلان عن وجودهم بدون تحفظ، فهم أقوياء لا يتوجسون خطراً من إبراز هويتهم أمام الآخرين.
2- إيجاد الشخصية المسلمة في نفوس المسلمين، وتصعيد معنوياتهم، وإشعارهم بأنهم قوة لا ترهب قوة، فقد بلغت مستوى التصدي لغيرها.
3- خضد شوكة غيرهم، وتخفيض معنوياتهم، وإشعارهم بأنهم ليسوا أسياد الموقف وحدهم، وإنما هنالك – إلى جانبهم – أسياد آخرون هم المسلمون.
4- توجيه غيرهم، وتحريك ضمائرهم التي – مهما تضاءلت – لا تموت ولا تتلاشى، وإنما تنبض كلما التقفت الضوء من مصدر إشعاع؛ فتتحرك لتقول لأصحابها: (انظروا هؤلاء المسلمين، أسلموا وبلغوا مستوى التصدي، وأنتم لم تدخلوا – بعد – في الإسلام، أنتم متخلفون، أنتم منحرفون). فيقف كل شعار موقف واعظ.